فن التوكل على الله

كل إنسان في هذه الحياة يمرّ بلحظات يختلط فيها الخوف بالرجاء، والقلق بالأمل. نبحث عن الأمان، عن سندٍ نطمئن إليه، وعن يقين يبدّد غيوم الحيرة. وقد دلّنا الله عز وجل عل…

الواثقه بالله
المؤلف الواثقه بالله
تاريخ النشر
آخر تحديث

كل إنسان في هذه الحياة يمرّ بلحظات يختلط فيها الخوف بالرجاء، والقلق بالأمل. نبحث عن الأمان، عن سندٍ نطمئن إليه، وعن يقين يبدّد غيوم الحيرة. وقد دلّنا الله عز وجل على أعظم باب يفتح القلوب ويحرر الأرواح من قيد القلق: باب التوكل عليه سبحانه.

التوكل ليس مجرّد كلمة نرددها، بل هو إيمان عميق يُترجم إلى طمأنينة في القلب، وسعيٍ جاد في الحياة، وثقةٍ بالله لا تهزها الظروف.

 معنى التوكل

التوكل في جوهره هو اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب. أي أن يبذل الإنسان جهده، ويستخدم ما أُتيح له من قدرات، لكنه يعلم في أعماقه أن النتائج كلها بيد الله، وأن الخير فيما يقدره الله.

قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب، وهو أن يثق بالله ويُسلم له الأمر."

ولهذا قال تعالى:

﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].

أي أن الله يكفيه ويؤمّنه ويكفل حاجته.

      لماذا نحتاج التوكل اليوم؟

لأن القلق يثقل الروح: كثرة التفكير في المستقبل والرزق والنجاح تُرهق الإنسان.

لأننا لا نملك السيطرة على كل شيء: مهما خططنا ورتبنا، ستظل هناك أحداث خارجة عن إرادتنا.

لأن الطمأنينة لا تأتي إلا من الله: المال والمنصب لا يمنحان القلب سكينة، بل يزداد القلق كلما زاد التعلق بهما.

التوكل في حياة الأنبياء

قصص الأنبياء مليئة بأمثلة حيّة عن التوكل:

إبراهيم عليه السلام: عندما أُلقي في النار، لم يكن بيده حيلة، لكنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل". فجعل الله النار بردًا وسلامًا عليه.

موسى عليه السلام: عندما تبعه فرعون وجنوده، والبحر أمامه، قال قومه: "إنا لمدركون". لكن موسى قال بكل يقين: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].

نبينا محمد ﷺ: في غزوة بدر، وأمام قلة العدد والعدة، قال: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، فأنزل الله ملائكته تثبّت المؤمنين.

هذه المواقف تعلمنا أن التوكل ليس ضعفًا أو استسلامًا، بل هو قوة روحية تجعل المؤمن ثابتًا أمام أشد الظروف.

الفرق بين التوكل والتواكل

قد يخلط البعض بين التوكل الحقيقي والتواكل السلبي.

التوكل: أن تزرع الأرض وتسقيها ثم تقول "اللهم ارزقني ثمرها".

التواكل: أن تجلس بلا عمل وتنتظر الرزق.

وقد قال ﷺ للرجل الذي ترك ناقته دون ربطها:

"اعقلها وتوكل."

أي اجمع بين الأخذ بالأسباب والتسليم لله.

خطوات عملية لتعزيز التوكل في حياتنا

إليك خطوات يومية يمكن أن تجعل قلبك أكثر طمأنينة بالتوكل:

  •      ابدأ يومك بالاستعانة بالله: اجعل أول دعائك كل صباح "اللهم إني توكلت عليك وفوضت أمري إليك".
  •        كرر ذكر: "حسبنا الله ونعم الوكيل": فهي كلمة الأنبياء في الملمات.
  •      اعمل بجد: ابذل ما تستطيع من جهد، فالرسول ﷺ كان يُخطط للغزوات ويستشير أصحابه.
  •      تعلّم الرضا: عندما تأتي النتائج على خلاف ما تريد، قُل "قدّر الله وما شاء فعل"، وكن واثقًا أن وراء ذلك حكمة.
  •       أكثر من قراءة القرآن: فالآيات تبني اليقين في القلب.
  •      دوّن نعم الله: التذكر اليومي لعطاء الله السابق يقوّي ثقتك بعطائه القادم.
  •       صحبة الصالحين: الجلوس مع من يذكّرك بالله يعزز يقينك.

ثمار التوكل

·        راحة البال: لن تحمل الدنيا على كتفيك، لأنك سلّمت الأمر لمن بيده كل شيء.

·        القوة الداخلية: المؤمن المتوكل لا تهزه الأزمات، لأنه يعلم أن الله معه.

·        البركة في الرزق: قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ [التوبة: 59].

·        السكينة النفسية: لا يعيش أسيرًا للخوف من المستقبل أو الندم على الماضي.

التوكل في حياتنا اليومية

·        عند البحث عن عمل: اسعَ بكل طاقتك وقدّم، لكن سلّم قلبك لله.

·        في تربية الأبناء: ابذل جهدك في التعليم والتربية، وادعُ الله أن يحفظهم ويهديهم.

·        في الزواج: خذ بالأسباب في الاختيار، لكن اعلم أن التوفيق من الله.

·        في المرض: تعالج بالأدوية، لكن اجعل شفاءك بيد الله قبل كل شيء.

كلمات ملهمة

قال الحسن البصري: "التوكل أن تكون مع الله كما يريد، ويكون الله معك فوق ما تريد."

وقال ابن القيم: "كلما قوي توكل العبد على الله استغنى به عن الناس."

خاتمة

الحياة مليئة بالاختبارات، لكن المؤمن الذي يتوكل على الله يعيش مطمئنًا مهما كان الطريق وعراً. اجعل شعارك في كل موقف:

"أنا أسعى والله يكفيني."

فحين تُسلم قلبك لله، لن تخشى الغد، ولن تندم على الأمس، وستذوق حلاوة الطمأنينة، لأنك بين يدي الرحمن الرحيم.


تعليقات

عدد التعليقات : 0